في اليوم الخامس والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة 658هـ (وقيل في اليوم الخامس عشر من رمضان سنة 659هـ) كانت معركة "عين جالوت " التي انتصر فيها المسلمون انتصارًا عظيمًا على "التتار" المخربين المدمرين، الذين اجتاحوا بلاد الإسلام، وفعلوا المآثم والمظالم ما تقشعر منه الأبدان. و "عين جالوت " بلدة من أعمال فلسطين المغتصبة - ردها الله إلى المسلمين قريبًا - وهي بلدة بين بيسان ونابلس .
وبطل هذه المعركة الجليلة هو السلطان المظفر سيف الدين قُطز بن عبد الله المعزي، الذي تولَّى الحكم في مصر يوم السبت 17 من ذي القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة؛ وذلك حين جاءت الأخبار المؤلمة من جهة الشام بتحرك التتار إليها، بعد أن قطعوا نهر الفرات، وهجموا بغارات شديدة على حلب وما حولها .
وكان الملك الناصر صلاح الدين يوسف قد أرسل إلى " قطز" يطلب منه النجدة والمعاونة على حرب التتار .
وكان رسول صلاح الدين في هذه المهمة أحد العلماء الفقهاء الكبار، وهو الشيخ كمال الدين عمر بن العديم، فسارع قطز بجمع القضاة والفقهاء وكبار القوم، لمشاورتهم في خطة المعركة، وفي تهيئة ما يلزمها من مال وعتاد وسلاح، ومدى ما يسهم به الناس في هذا المجال، وكان بين الحاضرين الشيخ الفقيه المجاهد: عز الدين بن عبد السلام، فقال في ذلك الاجتماع ما خلاصته موجهًا الكلام إلى السلطان: "إنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على العالم قتاله، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وتبيعوا ما لكم من الحوائص (الأحزمة) المذهبة والآلات النفيسة، ويقتصر الجندي على مركوبه وسلاحه، ويتساوى والعامة، أما أخذ الأموال من العامة مع بقايا في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة .
ومضى حين من الزمان استعد فيه قطز للمعركة، وكان بغي التتار قد امتد وزاد حتى احتلوا بلدة "الخليل" وبلدة "غزة" من أرض فلسطين، وقتلوا الرجال، وسبوا النساء والصبيان، واستاقوا من الأسرى عدداً كبيراً .
وصمم الملك المظفر - رحمه الله - على لقاء التتار، وخرج من مصر في الجحافل الشامية والمصرية في شهر رمضان .
وأمر السلطان الولاة بالتخفف والتقشف في شهر المعركة، وهو شهر رمضان، وأمرهم ألا يقيموا موائد إفطار؛ بل كل واحد يُفطر على قطعة لحم فحسب .
ورحل السلطان قطز بعساكره ونزل الغور بعين جالوت في فلسطين، وكانت جموع التتار هناك، وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان قامت معركة عنيفة بين الفريقين، وتقاتلوا قتالاً شديدًا لم ير الناس مثله، واشتد الأمر في بدء المعركة على المسلمين، فاقتحم قطز ميدان المعركة، وباشر القتال بنفسه، وأبلى في ذلك اليوم بلاء حسنًا .
وحاول أمير العساكر التتارية أن يُقَلِّد السلطان المظفر في قتاله بنفسه، فأخزى الله هذا التتري الباغي، ولقي مصرعه على يد جمال الدين الشمسي - رحمه الله تعالى - وانهزم التتار لا يَلْوُون على شيء، واعتصم بقية منهم في التل المجاور لمكان المعركة، فأحدقت بهم كتائب المجاهدين، وصابروهم على القتال حتى قضوا عليهم !
ولقد جاء في كتاب "الدين والميثاق" أن وباء التتار اجتاح أجزاء الدولة العباسية وجعلها قاعًا صفصفًا من التخريب والتدمير، واحتلوا بقيادة زعيمهم "هولاكو" بغداد سنة ست وخمسين وستمائة، وأزهقوا روح الخلافة العباسية، ثم احتلوا الشام، وقاربوا حدود مصر .
وأرسل هولاكو إلى السلطان قطز كتابًا يتهدّد فيه ويتوّعد، ويطلب منه المبادرة إلى التسليم والمسارعة بالخضوع، وهنا ثار الملك المظفر، وأبى له دينه وإيمانه وحريته أن يقبل ذلك التهديد، وأعلن السلطان الجهاد، وقاد الجيش بنفسه، ومعه الأمير "بيبرس ".
وهذا هو المقريزي المؤرخ المشهور يقول عن المعركة العصيبة: "فلما كان يوم الجمعة الخامس عشر من رمضان؛ التقى الجمعان، وفي قلوب المصريين هَمٌّ عظيم من التتار؛ وذلك بعد طلوع الشمس، وقد امتلأ الوادي، وكثر صياح أهل القرى من الفلاحين، وتتابع الضرب، فتحيز التتار إلى الجبل .
وعندما اصطدم العسكران اضطرب جناح السلطان، وانتفض طرف منه، فألقى الملك المظفر عند ذلك خوذته على الأرض، وصرخ بأعلى صوته: وا إسلاماه !
وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة، فأيده الله بنصره، وقَتَل "كتبغا" مقدم التتار، وانهزم باقيهم، وأبلى الأمير بيبرس أيضًا بلاء حسنًا بين يدي السلطان، ومرّ العسكر في أثر التتار إلى قرب بيسان، فرجع التتار، وصافوه مصافًّا ثانيًا أعظم من الأول (أي جمعوا جموعًا أكبر ونظموها)، فهزمهم الله، وقَتَلَ أكابرهم وعِدَّةً منهم .
وكان قد زلزل المسلمون زلزالا شديدًا، فصرخ السلطان صرخة عظيمة، سمعها معظم العسكر وهو يقول: "وا إسلاماه" ثلاث مرات. ثم هتف : " يا ألله، انصر عبدك قطز على التتار"، فلما انكسر التتار الكسرة الثانية، نزل السلطان عن فرسه، ومرَّغ وجهه على الأرض وقبلها، وصلى ركعتين شكرًا لله - تعالى - ثم ركب فأقبل العسكر وقد امتلأت أيديهم بالمغانم ، ومضى قطز إلى دمشق فدخلها فاتحًا منتصرًا، واستقبله أهلها خير استقبال، وأعاد فيها إلى الإسلام عزته، وقضى على بعض الخونة، ورتَّب أمور البلاد ومع أن السلطان المظفر كان شجاعاً مقداماً، وقائدًا حكيمًا، وبطلاً فاتحًا، وحاكمًا مدبرًا، كان يفخر بنعمة الإسلام كل الفخر، ويقول: ما أنا إلا مسلم ابن مسلم !