زكام يوغوسلافيا وحمّى دمشق .. وتأويلات الصحافة (الحلقة الأولى)
عاد الحديث عن اغتيال بومدين إلى واجهة الأحداث من جديد بعد شهادة الوزير العراقي "حامد الجبوري"، والتي كانت عبارة عن مقارنة، لم تستند إلى ما يؤكدها توثيقا أو شهادة علانية صادقة وواضحة، فالقاتل المتهم هو الرئيس صدام، والمغتال هو الرئيس هواري بومدين وكلاهما قدم إلى ما عمل، ما يعني أن لا أحد يطالب بحق الاثنين.
- أيام الخريف.. وأسرار المرض
- شهادة "أوشريف" و"علاهم" و"قاصدي مرباح"
- "إبراهيم سعدة" وتساؤلات الصحافة المصرية
- "فايزة سعد" وحديثٌ مبكرٌ عن قتل الزعيم
كنت أتمنى ألا أعود إلى الموضوع مرة أخرى بعد كتابي "اغتيال بومدين ..الوهم والحقيقة" الصادر عن دار الغد العربي في القاهرة، ودار قصر الكتاب في البليدة-الجزائر عام 1997، وأيضاً بعد جلسة طويلة مع زوجته السيدة "أنيسة"، التي طعنت في جوانب كثيرة مما جاء في الكتاب لكنها لم تقدم بديلا لما رفضته.
العودة أيضا بالنسبة لي كانت مرفوضة لكون القضايا التي تثار في الرأي العام وتهم الدولة ينتظر أن تحول إلى قضايا كبرى يتم الحسم فيها، وبدا التناول آنذاك مجرد حديث في الصحافة لم يترتب عليه رد فعل من السلطات الجزائرية، على الأقل في حدود ما أعلم.
لكن أجدني اليوم مضطرا للحديث في هذا الموضوع باعتباري أول من أشار إليه كتابة بناء على شهادة وزير الدفاع السوري السابق العماد الأول "مصطفى طلاس" بشكلٍ مباشرٍ وعلني بيّن فيه القائم بالفعل، وكان ذلك عكس الحالات السابقة التي اكتفى أصحابها بدغدغة المشاعر على مستوى الصحافة المحلية، أوالإشارة إليه ضمن العداء لبعض الزعماء العرب، تحديداً الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والملك السعودي المغتال "فيصل".
الخطان والتصفية . .
الواقع أن البحث في موضوع الاغتيال بالنسبة لي اعتمد على خطين متداخلين، خط المرض ومتابعة الوكالات الصحفية له، وخط المواقف السياسية، وإذا نظرنا للثمن الذي دفعته الأمة لغياب قي قاداتها الفاعلين نجد أن بومدين قد تمت تصفيته بالسم، لكن إذا استحضرنا النهايات لكل كائن حي، فإننا لا نبعد ذلك عن أسباب القدر، وهذه الرؤية، إن جاز اعتبارها كذلك، تعتمد على ما ذهب إليه الصديق العزيز "محفوظ سالمي"، حين كنا في القاهرة، إذ قال لي بالحرف الواحد بعد أن قرأ الكتاب: "لقد أشرت في كتابك عن بومدين لكل أسباب اغتياله واستبعدت قضاء الله وقدره".
لا تزال تلك العبارة محفوظة في الذاكرة كلما استعصى عليّ الأمر لفهم قضية سياسية ما، غير ان هذا لا يحول دون اعتبار بومدين كقائد سياسي وزعيم لشعب وبانٍ لدولته المستقلة، قاعدة ارتكاز للبحث في إشكالية اغتيال الدولة نفسها، فقد سبقته عدد من الاغتيالات السياسية لقادة صنعوا مجد الجزائر ولحقت به أخرى طغت عليها عمليات الإرهاب وكان أكثرها وضوحاً قتل "قاصدي مرباح" و الرئيس "محمد بوضياف".
لقد كان السؤال ولا يزال: لمَاذا لم يؤثر فينا أولئك الراحلين ولا حتى الباقين بدرجة تأثير بومدين؟
بعيداً عن الإجابة، فإنه مثل عقدة في حياتنا، لأن كل الزعامات السياسية التي جاءت بعده ستتحطم على صخرة وفائه للمبادئ وحلمه الكبير وتعامله مع شعبه.
على العموم، فإنه لا يمكن معرفة الاغتيال من عدمه إلا إذا تتبعنا خطوات المرض من خلال الوكالات، وإني لمدينٌ هنما لأرشيف جريدة "الأهرام" ولعمالها بما قدموه لي من مساعدة وما وفروه من وثائق وقصاصات الجرائد، حتى إنني خجلت في بعض الأحيان من اهتمامهم بالموضوع.
المرض.. والتفسير
في ذلك التاريخ، حيث الخريف بلغ منتصفه "نوفمبر 1978" بدأت الصحافة العالمية البحث عن أسرار غياب بومدين عن الظهور، ولم تعرف مرضه إلا في ذلك الوقت مع أنه أصيب به في شهر سبتمبر، ولم تجد إجابة حاسمة لغيابه عن المشهد السياسي فلجأت إلى احتمالات برزت فيما يلي:
- أن بومدين أصيب بالرصاص نتيجة لانقلاب فاشل.
- بعدها بيوم واحد، قالت: لقد سقط فعلاً من الحكم.
- بعد يوم آخر، ذكرت أن مصادر دبلوماسية قد أبلغتها بانقلاب وقع بالفعل ونجى منه بومدين وألقي القبض على العناصر التي قامت به.
- بعد ذلك بيومين أعلنت الوكالات أنه في الاتحاد السوفياتي للتفاوض من أجل السلاح لصالح جبهة الصمود والتحدي الرافضة لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل.
- تبعاً للخبر السابق أنه أثناء وجوده في موسكو، عادت للبحث في الداخل وكشفت هذه المرة عن الرائد "علي ملاح" الذي هرب من السجن قد ألقي عليه القبض في إيحاء إلى أن ما ذكرته سابقا خبرٌ مؤكد.
- بعدها بأيام، قالت الوكالات: إن السبب وراء عدم ظهور بومدين هو إصابته بمرضٍ خطير لم تحدده، وإن كانت قد وضعت جملةً من الافتراضات لم تثبت.
- بعد ثلاثة أسابيع من القول باختفاء بومدين جاءت الأخبار من باريس لتناقض ما قيل سابقا، وهي: أن حالة بومدين ليست مثيرةً للقلق ولكنها تحتاج للراحة والعلاج الطويل على يد الأطباء السوفيات.
- بعد هذا بيومين جاء خبر من واشنطن ليؤكد أن الأطباء السوفيات لم يحددوا نوع مرض بومدين.
- الخبر السابق نفسه كذب بطريقة غير مباشرة من مصادر أفريقية "لم تحدد"، حيث ذكرت الوكالات أن بومدين ليس مريضاً وإنما يزور موسكو لطلب المساعدة العسكرية.. وفي نفس اليوم نشر خبر آخر من باريس يدعي أن بومدين فقد صوته وأنه يعاني من آلام في الحلق.
- خمسة أيام بعد ذلك أعلن خبر في الصحافة المغربية بالرباط عن مرض بومدين بدرجة خطيرة.
- بعدها بيومين أوردت الوكالات أول خبر يصدر عن جهة جزائرية مسؤولة، وكان ذلك في الثاني من نوفمبر حيث أعلن أن الحالة الصحية للرئيس بومدين أحسن مما كانت عليه، وعادت التأويلات من جديد وهذه المرة من مدريد حيث أعلن هناك أن الرئيس الجزائري هواري بومدين مصاب بالسرطان.
- بعد ذلك بأسبوع قالت الصحف المصرية في القاهرة إن بومدين يعاني من مرض شديد داخل البلعوم.
- الأخبار السابقة نفاها خبر من مدريد فحواه "أن بومدين يعد لحملة واسعة للتخلص من معارضيه وأنه يعاني من مرض في المسالك البولية".
- بعد يومين من نشر الخبر في إسبانيا أعيد الحديث عن مرضه بالسرطان، واتبع بالأسماء المقترحة خلفاً له.
- في الجزائر أعلنت وكالة الأنباء الجزائرية عن طرد مراسل صحيفة "لو رور" الفرنسية بسبب ما نشره عن مرض بومدين.
- وفي الأسبوع الأخير من نوفمبر نشرت جريدة "الأنباء" الكويتية خبراً مفاده أن الأطباء لم يتمكنوا من تحديد مرض بومدين.
- في نفس اليوم أيضاً نشرت جريدة "النهار" اللبنانية تؤكد أن فرنسا منعت وقوع انقلاب ضد بومدين في بداية الشهر "أي نوفمبر 1978".
- أخيراً، وبالضبط في 25 نوفمبر، نشرت مختلف وكالات الأنباء العالمية نوع المرض الذي أصيب به بومدين وهو والدنستروم.
- بعد إعلان الخبر السابق لم تضف الوكالات أي خبرٍ آخر، لكن بعيداً عن برقيات الوكالات فإن الوصول إلى تحديد المرض كان ضرورياً لمعرفة ما يواجهه بومدين، حيث إن المعروف أن المرض السابق الذكر عاقبته الموت، وفعلاً توفي بومدين نتيجةً لذلك المرض، لكن ما قصته، وهل اغتيل أم مات موتاً طبيعياً؟