هؤلاء المرضى
في كتاب "هؤلاء المرضى الذين يحكموننا" الصادر بالفرنسية وترجمت بعض فصوله صحيفة الوطن الكويتية، أشار إلى أن بومدين كان يعيش كثيراً من التناقضات، والسبب في ذلك يعود إلى المرض الذي أصيب به وهو والدنستروم، الذي بدأت أول آثاره تظهر على الرئيس منذ أواخر 1973، واتخذت شكل حالات من التعب المجهول، وحالة فقر الدم بدا أن لا مبرر لها، إضافة إلى الهزال الذي ضرب جسم بومدين الهزيل أصلاً.
وإذا صدقت مثل هذه الأقوال فإن بومدين قاوم المرض لمدة فاقت الخمس سنوات، وهذا يعني أن جميع القرارات التي أصدرها في تلك الفترة يعاد فيها النظر، وأعتقد أن الذين تابعوا وقرؤوا خطابات وقرارات بومدين يدركون أن الرجل كان في كامل قواه العقلية وصحته، إذاً فما أهداف الكتابة الغربية؟
واضح أنها محاولة للتشكيك في القرارات التي تتعلق بمصير الأمة، وأن الذين يرفضون المشاريع الاستسلامية في المنطقة تكون نهايتهم مثل بومدين، ثم إنه بالمتابعة للمرض، تاريخياً، يمكن القول إن حالة بومدين الصحية ساءت كثيراً في 24 سبتمبر 1978 أي بعد عودته من دمشق، حيث شارك في قمة دول عربية هناك وبدا عليه التعب بصورة واضحة، فتوجه به أطباؤه فوراً إلى المستشفى العسكري الذي أشارت فحوصه وتحاليله إلى وجود خلل في الأداء الكلوي عند الرئيس، لكن هذا لم يعطِ تفسيراً لما لوحظ عليه وقتها، إذ ظهر عليه شلل خفيف أصاب وجهه.
الموت وقمة الخرطوم
نتيجةً لذلك اعتقد الأطباء الجزائريون أن الأمر يتعلق بسرطان في الكلى وتحديدا في الغدتين الموجودتين فوق الكليتين، فأدخلوا الرئيس إلى قسم الأمراض البولية حيث أظهرت العناية المركزة أن التشخيص الأول غير دقيق، غير أن هناك من يرى في الأقوال السابقة نهاية المرض والدخول في مرحلة الموت، حجته أن علامات المرض بدت على الرئيس قبل ذلك بشهور أي بعد أن عاد من يوغوسلافيا وبعد عودته من قمة الخرطوم التي تصدرت جدول أعمالها موضوعات عربية ساخنة، من ذلك السلام بين مصر وإسرائيل والقضية الفلسطينية وقضية الصحراء الغربية.
وترى بعض الأوساط الجزائرية المطلعة أن بومدين بعد عودته من الخرطوم توجه ليوغوسلافيا، وهناك تعرض للمرض وأجرى فحوصات وقضى أياماً للاستجمام والراحة، وهذا يعني أن زيارته للعراق وسوريا جاءت بعد ذلك، وأن قصة المرض لم تكن من بغداد، وإذا صدقت هذه المعلومة فإن الرئيس الراحل صدام حسين بريء من تهمة الاغتيال، ولا أدري لماذا لم أنتبه لهذا عند كتابتي لمؤلفي "اغتيال بومدين" منذ إحدى عشر سنة خلت، ربما قد يجد لي القارئ عذراً في تلك الأقوال التي أكدتها أطراف جزائرية أخرى ترى أن ظهور المرض الذي أدى به إلى الغيبوبة ثم الموت كان في سوريا.
من ناحية أخرى فإن عدة جماعات مسؤولة في الجزائر تقول إن "عبد المجيد علاهم" مدير التشريفات آنذاك أكد عدة مرات على أن المرض ظهر على بومدين عند وصوله إلى سوريا، وقد اضطر إلى عدم المشاركة في المؤتمر والعوة سريعا للجزائر وهذا يعني أن المرض كان من خارج سوريا.
لاشك أن الشهادات المختلفة تعطي انطباعاً بأنه يصعب اتهام طرف بعينه باغتيال بومدين، وأن تهمة صدام حسين يجب أن يعاد النظر فيها بناء على الحالة التي آل إليها رغم اتهامات طلاس له.
من ناحية أخرى فإنه بعد عودته من يوغوسلافيا اشتد عليه السعال وكان معروفاً بحساسيته المفرطة تجاه البرد والزكام، ورغم حرارة الجو في ذلك الوقت أحس الرئيس برعشة شديدة وحالة برد، فطلب من أحد وزرائه إحضار طبيب يفحصه.
حيرة الدكتور "أو شريف"
وتذهب الكاتبة الصحفية "فايزة سعد" في مجلة روز اليوسف في مقالٍ طويل منشور على أربع صفحات بتاريخ 30 مارس 1992 إلى التأكيد على أن بومدين مات مقتولاً، ومن بين ما ذُكِر في تقريرها السابق "جاء الدكتور "عبد الحفيظ أو شريف" واستغرق في فحص الرئيس فترة طويلة، لكنه لم يصل إلى نتيجة محددة، واقترح توصيل الرئيس للمستشفى المركزي لإجراء مزيد من الفحوصات".
بعد إجراء سلسلة طويلة من الكشوفات الطبية أدرك كبار أطباء الجزائر أن بومدين مصاب بمرض غير واضح المعالم، لذلك اقترح الدكتور أو شريف أن يحمل صور الأشعة إلى ميدنة "ليون" الفرنسية حيث يمكن أن يعرضها على بعض أصدقائه الأطباء المختصين.
بعد أيام عاد أوشريف بحقيبة مغلقة داخلها تقرير سري عن حالة هذا المريض الذي لم يكشف عن اسمه لأصدقائه الفرنسيين، ومسألة إخفاء اسم بومدين أو عرض ملفه الطبي تحت اسم آخر أكدها أكثر من مرة الراحل "قاصدي مرباح" وقد سمعتها منه كما سمعها كثير من الشباب في مدينة سطيف "ديسمبر 1990" بمناسبة الاحتفال بذكرى وفاة بومدين.
لقد أوضح التشخيص أن بومدين مصاب بسرطان في المثانة ويجب أن يدخل غرفة العمليات فور استئصال الورم الخبيث، والأفضل أن يتم في إحدى المستشفيات الغربية، والأحسن أن تتم مراحل العلاج في المستشفى الأمريكي ورفض بومدين أن يعالج في الغرب لكرهه الشديد له وخوفه من التعرض لحملة إعلامية شديدة هناك.
أجل بومدين العلاج وكأنه لا يبالي وانغمس في مسؤولياته وسافر بعد ذلك إلى دمشق، وفي يوم السفر اشتد الألم عليه فاصطحبه طبيبه الخاص وسط إجراءات أمنية محددة حتى لا يكتشف أحد مرضه، وأثناء وجوده في دمشق التزم بالبقاء شبه الدائم بمقر إقامته حيث لم يظهر لمندوبي الصحف، ولم يخرج للقيام بزيارات إلا في حالات نادرة جدا.
الطريق إلى موسكو
بعد عودة بومدين بعشرة أيام من سوريا بدأ الاتصال بموسكو وهذا حسب القراءات الغربية، في حين يرى السوفيات أن الاتصال تم قبل ذلك بمدة خمسة أيام أي في 5 أكتوبر، حيث يقول " شازوف" كبير أطباء الكريملن أن الجزائريين بدأوا الاتصال بالمسؤولين السوفيات في أيام سبتمبر، غير أن هناك من يذهب إلى القول إن بومدين سافر بالفعل يوم 5 أكتوبر 1978 إلى موسكو ويسرد القصة على النحو التالي:
في يوم 5 أكتوبر الماضي كانت الطائرة الجزائرية تستعد للإقلاع في طريقها إلى موسكو، طائرة عادية، ورحلة معتادة، وركابها قليلون يعدون على أصابع اليد الواحدة، والمعروف أن هذا الخط الجزائر _ موسكو لا يستخدمه إلا كبار الزوار من الجزائريين والسوفيات، وطائرة شركة الخطوط الجوية الجزائرية التي تعمل في هذا الخط تقلع عادةً شبه خالية من الركاب، وعلى غير العادة في هذا اليوم فوجئ الركاب القليلون بمن يطلب منهم النزول من الطائرة التي كانت تستعد للإقلاع بالفعل، ولم تقدم لهم أي تفسيرات لإلغاء سفرهم وإبعادهم من الطائرة ومن المطار ذاته، وحتى لو سأل الركاب عن السبب فإن أحداً لم يكن في استطاعته الإجابة.
ويضيف الصحفي المصري "إبراهيم سعدة" في تحقيق نشره في أخبار اليوم بعنوان "سر اختفاء بومدين" في 8 نوفمبر 1978 أن الركاب الأربعة أبعدوا من الطائرة في اللحظة التي وصلت فيها ثلاث سيارات تابعة للأمن الحربي "العسكري" الجزائري وتوقفت عند سلم الطائرة، وبسرعة البرق نزل ركاب السيارات وصعدوا إلى الطائرة التي أقلعت على الفور في طريقها إلى موسكو، وكان الرئيس هواري بومدين أحد هؤلاء الركاب.. طار سراً إلى موسكو بلا مراسيم التوديع المعتادة، وبلا دقات الطبول أو صفير المزامير.
ومن باب التذكير فقد بدأ الصحفي إبراهيم سعدة تحقيقه السابق بالقول: "..فالحاكم في الدول التي تحكم بالرأي الواحد وتساق بالقرار الأوحد مثل الجزائر يتصور أنه تعدى مرحلة البشر، بمعنى أنه لا يمرض كما يمرضون ولا يتداعى صحيا كما يتداعون".
لقد أوردت هذه الفقرة للكشف عن أهمية الصراع الدائر آنذاك بين القاهرة والجزائر حول اتفاقية "كامب ديفيد".
المهم أن خبر سفر بومدين يوم 5 أكتوبر إلى موسكو جاءت به عديد من الصحف، من ذلك ما أوردته مجلة "باري متش" الذي نقلته صحيفة الأهرام المصرية، وجاء فيه: أن هناك طائرة عادية كان من المفروض أن تغادر الجزائر على التاسعة والربع صباحا، لكن لم تسافر في الوقت المحدد وأنزل منها ركابها الأربعة..للعلم فإن التحقيق طرح في بدايته جملة من الأسئلة في عنوانه حيث ذهب إلى القول: ما الذي يجري في الجزائر؟ أو ما الذي يمكن أن يجري في الجزائر في المستقبل القريب؟ كما أن صحيفة الأهرام أسبقت ترجمتها بملاحظة جاء فيها: "ننشره دون تعليق ونترك كل سطر فيه يتحدث عن نفسه"، وقد تزامن هذا مع تحقيق "إبراهيم سعدة" في "الأخبار" السابق ذكره.
وبغض النظر عن التاريخ الذي سافر فيه بومدين للعلاج في موسكو، فإن أول من تعامل معه هم الأطباء السوفيات الذين أجروا له الفحوص الأولية، وقد اتسعت دائرة متابعته إلى الأطباء الغربيين والعرب، فهل من أدلة أو قرائن تشير إلى اغتياله عند معالجته؟ : نتابع تفصيلات ذلك في الحلقة المقبلة.